أعلم انني سأنكأ جرحا لن يتوقف نزيفه من الدماء والآلام والدموع والحسرات والمرارات, ولكني سأضع الأمر بين يديك تاركا لكم تقدير الموقف.فأنا أحد الأطباء من المصريين العاملين بالخليج تحت نظام الكفالة اللعين والذي هو المرادف لنظام الرق والتجارة في البشر في العصر الحديث الذي تتباهي فيه الدول بما حققته لشعوبها من تقدم في مجال الحرية وحقوق الإنسان!
المهم ذهبت إلي هناك مشحونا بأحلام العدل والإنصاف والكرامة ولقمة العيش الهنية ثم أن ادخر مالا استعين بظله علي مواجهة هجير الأسعار التي يزداد أوارها يوما بعد يوم فاستقبلنا الرجل في مكتب السفريات الفلاني بوجه صبوح وابتسامة واسعة واستقبال رائع فرأيت حصوني تنهار فجأة أمام هذه الأخلاق الرائعة وأوافق سعيدا علي شروط العقد التي رأيتها مجحفة إلا أنني كذبت نفسي وقلت لا يمكن أن نري من هذا الرجل( الكفيل) إلا كل خير ثم ما الذي سيدفع الأمور إلي حد الصدام والاحتكام لشروط العقد؟!
هو له عندي عمل والتزام وأنا لي عنده راتب واحترام فإن اتفقنا وإلا ذهب كل منا إلي حال سبيله.قدمت إلي بلده ياسيدي محملا بالأمل والحلم والرجاء فإذ بالوجه البشوش يتحول إلي وجه متجهم والابتسامة الواسعة تختفي لتحل محلها نظرات التعالي والفخار, فكففت نفسي وانكفأت علي عملي لا ألوي علي شيء ولا أهتم بأحد إلا بعملي وبالمرضي الذين يراجعونني.
إلا أن الأمور لا تسير هكذا, فلابد من الاحتكاك في الإقامة والترخيص والامتحان والبنك وكل شيء, فأنت فاقد الأهلية لا تستطيع أن تستقدم أولادك إلا بموافقته ولا أن تؤدي شعائر الحج والعمرة إلا بموافقته, والسكن حسب ما يتيسر له سواء راق لك وناسبك أم لا, ومدارس أولادك وسيارتك, كل شيء بإذن الكفيل, فدولته أعطته تأشيرة ليحضر قوما ليكون مسئولا عنهم ولكنهم ـ أي الكفلاء ـ حولوا هذه الصلاحيات إلي تحكم بغيض في كل شيء يخص المكفول وأسرته وأولاده واللي مش عاجبه يرحل وفعلا ما أعجبني الحال فقررت الرحيل.واسمح لي هنا أن أكتم ضحكة ساخرة مريرة تكاد تنطلق رغما عني حيث إنني ما أن لوحت مجرد تلويح بذلك إلا وانقلبت سحنة الكفيل إلي وجه شرس وأخذ يهدد ويوعد ويزيد وانتحي بي أصحاب المصالح جانبا ونصحوني بالصبر والاحتمال, وانك لن تجد أفضل من ذلك وأن العيشة في مصر بقت صعبة وأن القرش أصبح عزيزا, وأحمد ربنا علي النعمة التي يحسدك عليها الكثيرون, وانه ممكن يلفق لك قضية مع ممرضة مأجورة أو مع إحدي المراجعات و و و... الي آخره.
فرضخت وسكت ورجعت إلي استكانتي منفردا بنفسي ومهتما بعملي, ولكن هيهات أن ينساها لي الكفيل المحترم والذي لايكف عن تذكيرنا في كل وقت بأنه يقدر يستغني عنا كلنا في لحظة, وأن الدكاترة في مصر علي قفا مين يشيل, والعشرة هناك بريال وانتم لو كنتم فالحين في بلادكم ما كنتم تركتوها و و و وإذا به يصدر قرارا مفاجئا بإنهاء خدماتي في ساعة زمن فحمدت الله, وطالبته بحقوقي لكي أرحل, ما كان منه إلا أن قال مالك عندي حقوق وأمامك مكتب العمل خليه يعطيك حقك!!البلد دي بلد الكفيل!!
ثم قام بوقف صرف رواتبي المستحقة أيضا في حملة تجويع وإذلال ليس لها مثل ضاربا عرض الحائط بالأخلاق والالتزامات واحتياجات الأسرة والأبناء من الطعام والشراب والكهرباء والمياه والخدمات الأساسية التي لايستغني عنها بشر, فذهبت إلي مكتب العمل شاكيا معتقدا أنني سأجد هناك من يمد لي يده ويتوسط لأخذ حقوقي وأرحل فقط, ولكني فوجئت بالمئات والآلاف مثلي ممن لهم ظروف أقسي وآلام أكبر ومن جميع المهن والأعمار, الكل يبحث عن القشة التي تنقذ الغرقي في بحر من عرق الخجل والإحساس بالهوان والذل, فقررنا الاستنجاد بالسفارة المصرية فإذ بهم يقولون لنا ببرود شديد إننا لانملك عصا سحرية لحل مشاكلكم ولا يوجد لدينا إلا الحلول الودية والدبلوماسية فقط, فإن تعنت الكفيل فلا مناص أمامكم إلا مكتب العمل والقضاء!فانهارت مقاومتنا واندكت حصوننا, فهذا هو ملاذنا الأخير يعلن أنه بلا حيلة ولا قوة اللهم إلا شفاعة لا تسمن ولا تغني من جوع, فرجعنا إلي مكتب العمل والذي أمهلنا شهرا لمحاولة الإصلاح مع الكفيل, فلما فشلت المفاوضات لرفض الكفيل إعطاءنا أي شيء بل وهدد انه سيمنعنا من دخول البلاد لمجرد أننا تجرأنا واشتكينا في مكتب العمل!!
ورفعت المعاملة إلي المحكمة, اتدري ياسيدي متي كانت أول جلسة؟ كانت بعد ستة أشهر بالتمام والكمال, ستة أشهر مريرة من الانتظار بلا عمل ولا دخل ولا أحد يمد لك يده بالمساعدة ولا شيء علي الإطلاق, ثم عليك أن تقوم بتوكيل أحد المحامين ليتولي عنك عرض القضية, ولابد أن يكون من أبناء البلد, فلا يمكن لغيرهم أن يترافعوا أمام القضاء, أتدري كم طلب المحامي؟!طلب ثلاثين ألفا فقط لكل قضية, ونحن لانملك قوت يومنا ولا نستطيع ان نعمل في أي مكان, ولا نستطيع حتي ان نغادر الي بلادنا لأن جوازات السفر مسحوبة بمعرفة الكفيل, ولا يمكن الخروج إلا بموافقته, وبعضنا قد أبلغ كفيله الجوازات بهروبه( ولابد من سجنه) فالكفيل هنا لا ينطق إلا حقا!
فرجعنا إلي السفارة مرة أخري نستنجد بها أن تتولي عنا توكيل محام وان تتوسط لإحضار جوازاتنا وتسفيرنا ولكنها اعتذرت بعدم وجود دعم مالي يسمح لها بتوكيل محامين عنها, ولكنها ستحاول إقناع الكفيل بإعطائنا الجوازات مقابل( التنااااازل) عن مستحقاتنا, أو عليكم الصبر جياعا وأذلاء ومهانين حتي يفصل القضاء بعد سنتين أو ثلاث كما حدث مع غيركم ممن سبقوكم علي نهج الإهانة والذل.فماذا نفعل ياسيدي؟ أشيروا علينا ياقومنا يا أهلنا في مصر, ماذا نفعل وماذا نقول وإلي من نشكو مآسينا وهمومنا وآلامنا؟
أليس لنا أحد يدافع عنا ويأخذ لنا حقوقنا؟ أليس لحكومتنا في هذه القصص المعادة والمكررة إلي درجة الملل والتي تعد بالآلاف أي دور؟!
قالوا لنا إنكم تستطيعون الحصول علي تصاريح مؤقتة بالعمل لحين انتهاء قضاياكم, فذهبنا إلي مكتب العمل للحصول عليها, فإذ بسلسلة طويلة من الإجراءات في انتظارنا وعندما ذهبنا بهذه التصاريح إلي أصحاب الأعمال قالوا لنا عليكم ان تحلوا مشاكلكم مع كفلائكم أولا ثم أهلا بكم وسهلا!!
والذين قبلونا ساومونا علي الرواتب إلي أقل من النصف ومنهم من ساوم إحدي الزميلات علي شرفها!
فإلي من نلوذ يا ناسنا وياقومنا ويا أهلنا؟اسألوا القنصل العام المصري في جدة وفي الرياض والمستشارين العماليين أيضا, بل اسألوا معالي وزيرة القوي العاملة والهجر والتي كانت في زيارة لنا منذ عدة أيام عن الآلام التي سمعتها وعن المآسي التي رأتها وعن الدموع التي سفحت أمامها, والكل يؤكد علي متانة العلاقات ورسوخها بينما الحقيقة مرة بل هي أمر من أن تقال, وأمر من أن تسمع, فضلا عن أن تجد من ينهض بحلها ويتحمس لطرحها رحمة بالضعفاء والمظلومين من أبناء الوطن في بلاد النفط!!
ألا يمكن لنا أن نعمل في بلادهم وكرامتنا محفوظة وحقوقنا مصانة؟ أم لابد أن نتجرع الذل والمهانة كضريبة طبيعية لهذا العمل؟إلي من نشكو وقد جار علينا الجميع وخذلنا الجميع وجوعنا الجميع, نحن وأولادنا وأسرنا, وبالغوا في إذلالنا حتي لا نرفع رأسها ولا نقيم عليهم حجة الجوع والذل والأسر والقضاء طويل الأجل والعدل البطيء والظلم السريع والتعسف في استخدام الصلاحيات وعجز السفارة عن نجدتنا بحجج وأسباب, وحكومة تركتنا في العراء لأقدارنا, ليس لنا إلا الله الذي نشكو إليه مآسينا وآلامنا ومصائبنا وهمومنا منتظرين رحمته وفضله, فليس لنا سواه بعد أن تركنا الجميع.
وإذا أردتم أن تعرفوا من نحن فاسأل سيادة القنصل العام بالرياض أو المستشار العمالي لتجد منا الأطباء والمهندسين والمدرسين والعمال والسائقين من الجنسين, أما أنا... أما نحن, فإننا نرجوك أن تعيد صياغة كلامنا مخافة ردة فعل انتقامية من كفيلنا لا نجد من يدفعها عنا بعد أن بلغ بنا الجهد والجوع والعناء مبلغه, ولم يعد أمامنا إلا أن نقدم نساءنا وبناتنا وما تبقي من شرفنا وكبريائنا إن كان مازال هناك شيء بهذا الاسم.
ملحوظة: لم نجد أمام مكتب العمل أيا من الجنسية الفلبينية أو الباكستانية ولا الهندية فضلا عن الجنسيات الأمريكية والأوروبية, فقط لايوجد الا المصريون والبنجال( مواطنو بنجلاديش) اتدري لماذا؟ لأن الدنيا تقوم ولاتقعد إذا اهينت إحدي الخادمات ـ وليس الأطباء والمهندسين ـ وما موقف الرئيسة الفلبينية عنا ببعيد, أما نحن فلا أحد لنا يغضب من أجلنا ويحمينا إلا الله والله وحده.
* سيدي.... سيغضب من أجلكم كثيرون سواء كانوا في الحكومة أو خارجها, وسواء كانوا في مصر أو المملكة العربية السعودية, المهم أن تصل إليهم أصواتكم, وها نحن نفعل.نعم نكأت جرحا غائرا, فقضية الكفيل ومشكلاته مثار جدل وحوار مستمر, ليس في دول الكفلاء فقط ولكن في كل دول العالم, فهو نظام قديم يعمل به الآن فقط في دول الخليج لأنه قبلة الباحثين عن وظيفة وعن مستقبل أفضل, وبعض هذه الدول تناقش الآن سبل إنهاء هذا النظام الذي يستغله البعض بصورة غير إنسانية, ومع وجود قوانين ضابطة, إلا أن البعض ـ كما يحدث في كثير من دولنا العربية ـ يستطيع التحايل علي القانون, ولأننا لن نستطيع الآن ومن خلال هذه المساحة مناقشة قانون الكفيل وكل ما يثار حوله, ولأن الهدف الآن هو انقاذكم ومساعدتكم في الأزمة, دعنا نتركه علي الرغم من أهميته, ونناقش ما أنتم فيه الآن.
سيدي.. لا تتسرع وتتهمني بالدفاع عن العلاقات الطيبة التي يجب ان تكون بين مصر وكل الدول العربية, وبخاصة المملكة العربية السعودية, دعني فقط وحتي لايحدث تعميم أقول لك إنه ليس كل الكفلاء في السعودية أو في دول الخليج الأخري يتصرف بنفس الأسلوب اللاأخلاقي واللاإنساني مع العاملين الذين يسهمون في بناء هذه البلدان وعلاج أبنائها وتعليمهم, فأنت تتحدث عن مئات, بل آلاف, ولكن هناك ملايين المصريين المستقرين في أعمالهم والذين يلاقون كل محبة وتقدير لما يقدمون, فالتعميم هنا خاطئ وضار, ونحن نسعي إلي حل مشكلات وتصفية نفوس, لا تعقيدها وتحريض الجنسيات علي بعضها البعض.الأزمة تبدأ من هنا ياسيدي, من مصر, من الظروف الاقتصادية الصعبة التي تدفع أبناءنا إلي السفر والغربة بحثا عن حياة أفضل, فإذا كان هذا هو الخيار المتاح فليكن بضوابط من بداية التعاقد.. الخطأ بدأ عند قبولك ـ وغيرك ـ بعقد شروطه مجحفة, مبررا لنفسك ذلك بأن صاحب الوجه الصبوح والابتسامة الواسعة لن يتغير, بينما تعرف كما يعرف الجميع أن العقد شريعة المتعاقدين سواء هنا أو هناك.. فلو كانت لدينا جهة تعتمد العقود ولا توافق إلا علي المستوفي لكل الاشتراطات التي تضمن الحقوق ما تعرضتم لذلك.يبقي مما يخصنا هو دور سفاراتنا في الخارج وما يجب عليها أن تفعله تجاه أبناء مصر, وحتي لانقول رأيا استنادا الي صوت واحد, سأنتظر ردا وتوضيحا وموقفا من وزير الخارجية النشيط والمحترم أحمد أبو الغيط ومساعده السفير أحمد رزق للشئون القنصلية والذي بدأ الاسبوع الماضي جولة لمتابعة أحوال المصريين في الخارج.. ونتمني ان نعرف ماذا يفعل المصري عندما يتعرض لمثل هذه المواقف المهينة وكيف يفعل وهو وحيد, عاطل, وخائف, ومسئول عن أسرة, بلا وظيفة, أو راتب أو مساندة؟!المصري يجب ان يعامل في السعودية أو في أي دولة شقيقة عربية أو إسلامية أفضل من الأمريكي أو الفلبيني أو الهندي, أو أي جنسية غير عربية.المصري شريك في بناء هذه البلاد, محب لها, له حقوق وعليه واجبات, وحكومتنا الرشيدة مسئولة عن حمايته وعن كرامته في مصر وخارجها.أما المسئولون في المملكة العربية السعودية فأتمني أن يعيدوا الحق إلي أصحابه, فنحن لا نتدخل في قوانين بلادهم, كل ما نطالب به هو الحق لأبناء مصر أبنائهم وهم أهل لذلك, وأملي كبير في استجابة سريعة من المثقف الكبير عاشق مصر والمصريين سفير المملكة في مصر كما هو سفيرنا في المملكة هشام الناظر ان يتابع أزمة المصريين في السعودية ـ كما عودنا ـ ويمد يده لحل أزماتهم وإعادة حقوقهم إليهم.. فما بين مصر والسعودية أكبر من أن يهزه بعض الموظفين وتعسف بعض المواطنين, ونحن في الانتظار.. وإلي لقاء بإذن الله.
هذه المشكلة منشورة فى جريدة الاهرام المصرية بتاريخ اليوم فى بريد القراء وهذه من بعض المشكلات التى تحدث فى الخليج.